تجليات العمى في نفسية أبي الحسن الحصري القيرواني وشعره 420- 488ه

No Thumbnail Available
Date
2008
Journal Title
Journal ISSN
Volume Title
Publisher
جامعة أم البواقي
Abstract
لئن طال حديثنا عن طبيعة الإنسان المتأرجحة بين الرضا و السخط على الواقع، و لا سيما إذا حُرم أحد أبواب الوجود، لخلق الخطاب كالسمع و البصر و الحركة، فإنه و لا شك سيصارع، و لكن كيف تكون طبيعة هذا الصراع ؟ و ما مدى نجاحها أو إخفاقها؟ هذا ما وجدتُه عند شاعرنا أبي الحسن الحصري القيرواني على مستوى العلاقات مع العالم المحيط به، و كيفية توظيف عالمه الفني. و لذلك كان السؤال المطروح هو: ما مدى تأثير عاهة العمى في نفسيتة، و في شعره؟ ذلك ما حاولت الإجابة عنه و أنا بِصدد إنجاز هذا المذكرة، التي قسَّمتها إلى مدخل عنوانه آثار العمى في نفسيات الشعراء العرب و في إبداعاتهم، و ثلاثة فصول، هي: ترجمة أبي الحسن البحصري القيرواني، و تجليات العمى في نفسية أبي الحسن الحصري، ثم تجليات العمى في شعره. و قبل أن أرصد مظاهر تأثير هذه العاهة عند الحصري، كان لِزَاماً عليَّ أن أبحثها عند الشعراء العرب العميان القدماء و المحدثين. و قد قسمت آثار عاهتم إلى قسمين: نفسية، و إبداعية. أما النفسية، فتتمثلت في قلة صبرهم على عماهم، و شعورهم بالنقص لِفقدِ البصر، الذي تولَّدت عنه عصبية مزاجهم، رغم إيمانهم بمبدإ التعويض عما افتقدوه، فكان أن وهبهم الله حدة في الذكاء، و سرعة في البديهة. كما نجد هذا الصنف من الشعراء يحمل نفسا متردّدة بين الإقبال على ملذات الدنيا و الإعراض عنها، تغلب عليها نظرة متشائمة إلى الحياة. أما الآثار الفنية، فتجلت في غزارة إنتاجهم، وتجويده،و التَّفنن فيه، حِرْصا منهم على تحدّي المبصرين، لاعتقادهم بتفوقهم عليهم في العملية الإبداعية، التي أظهروا فيها تَمَيُّزاً في الأفكار، و المعاني، و الأسلوب، و الأغراض الشعرية، التي لاحظت عليها قلة الوصف، و لا مبالاتهم بممدوحيهم،و تناولهم شؤون العقيدة و المذاهب الدينية. كما برزت في أشعارهم و رسائلهم ظاهرة البديع المتمثلة في كثرة الطباقات و التجنيس. و فيترجمة أبي الحسن الحصري، توصَّلتُ إلى إهمال المترجمين لمرحلة طفولته و شبيبته في القيروان، و احتمال افتقاده لوالدته في سنٍّ مبكِّرةٍ، و عماهُ بعد الولادة. و إلى غلبة التكوين الدِّيني على ثقافته. و لطبيعة البحث التي تقتضي اطِّلاعي على ما جمعه مؤلفا كتاب (أبو الحسن الحصري القيرواني) من أشعاره و بعض خطبه و رسائله، لاحظتُ ما تميزت به آثار الحصري من تجديد و إبداع؛ كنظمه قصائد ديوان المعشرات على جميـع أحرف الهاء، حيث تستقل كل قصيدة بعشرة أبيـات، تبدأ و تنتهي جميعهتا بنفس الحرف، و تنتظم كلها على وزن الطويل. و نفس الطريقة اعتمدها في ديوانه (اقتراح القريح و اجتراح الجريح)، مع عدم انتظامها على بحر واحد. أما قصـائد الذيل، فقد جمع فيها بين السير على نهج اقتراح القريح، فكانت كلها مراثٍ، و على نظام المعشرات، مع اختلاف بسيط، و هو جعل عدد أبيات كل قصيدة خمسة عشر، و انتظامها جميعها على مُخلَّع البسيط. أما عن آثارِ العمى في نفسية أبي الحسن الحصري، فتوصلت إلى أن الشاعر يفخر بعماه و يعتبره عاملا إيجابيا، و لكن حين نطلع على ما تم جمعه من أشعاره، نجد في بعض نماذجه ما يفضح ما يُضْمِرُهُ، إذ فيها شكوى من ذاك الفراغ الذي سببه له العمى، و يكفيه أنه حرمه من أبسط حق و هو رؤية قبر فقيده عبد الغني. و للتعويض عن النقص الذي يجده في نفسه بأثر عاهته، نراه يلحّ في إثبات شهرته، و يعظم من شأن نفسه إلى درجة وضعها في منزلة الأنبياء و الصالحين، كما لاحظتُ عليه قِلَّة استِئناسِه لأيٍّ من البشر، و هي نزعة يشترك فيها شاعرنا مع جميع الشعراء العميان، الذين يتميزون بوحشية الغريزة، و عدم الاطمئنان للناس حتى و لو كانوا من الأقارب الذين لم يذكر منهم صراحة غير ثلاثة هم: والده، و زوجته، و ابنه عبد الغني . و عن موقفه من الأبـاعد، فهم سواسية عنده، لم يطمئن إلى أيٍّ منهم، فكلهم غير مأمـون الجانب، و إذا كان ممدوحوه أكرموه و أجزلوا له العطاء، فإنه لا يرى في ذلك استيفاء لحقه، بل أكثر من ذلك لا يراهم أهلا لمدحه، و لم يستثن منهم غير العلماء و الفقهاء. هذا فيما يخص موقفه من ممدوحيه، أما خصومه، فإليهم يُرجع كلَّ مصائبه و مآسيه، بما في ذلك موت ابنه عبد الغني، و أكثر من ذلك فقد ضبط كل تصرفاته و مواقفه على ردود أفعالهم، و تشفيهم فيه؛ و لأجلهم أخفى مظاهر حزنه و بكـائه على فقيده عبد الغني، و لهم اختار ما شاء من أرذل الأوصاف. أما بلده القيروان التي ازدادت صورتها جمالا و بهاء، فقد أذكاهما حنينُه الدائم إليها و صورُها الزاهية التي يصنعها له خياله بين الفينة و الأخرى، وبصورة خاصة، كلما عُومِلَ بسلوك يجد فيه استفزازا لشخصه. و فيما يتعلق بِتَجليات العمى في شعر الحصري، فيبدو ذلك في تسعة مستويات، أولها أغراض شعره، التي غلب عليها الرثاء، أما حجمُ النصوص الشعرية، فإنه نظم في الطوال مثلما نظم في القصار، و ذلك قصد إظهار تفوقه في شكل القصيدة، لأن القدامى مثلما فَضَلُوا بالطوال فَضَلُوا بالقصار. و إذا كان الشاعر قد نظم في المقطوعات أكثر من الطّوال؛ ، فذلك لا يعني عجزه عن النظم في الطوال، و هو المعروف بتطويله في القصيدة و لو كانت صعبة القوافي. كما أن المقطوعات تحتاج بدورها إلى قوة التركيز و دقة التعبير بأوجز لفظ. و مع ذلك كان مجيداً في النوعين. أما على مستوى المعاني، فيتمثل في وفرتها و تداعيها، و مساواته فيها بين الأضداد، و كثرة الدّال منها على التشاؤم. و مردّ هذه الخصائص إلى اعتماد الشاعر على الذاكرة، و على النفس المكلومة بعاهتها. و على مستوى الأسلوب، تجلو أربع ظواهر أولها كثرة الألفاظ الحوشية، و ثانيها هي سبق الخطابات بالنداءات، و ثالثها كثرة الاستفهامات التي تعكس حيرة الشاعر الأعمى، و بحثه المستمر في جواهر الحقائق و طبائع البشر، و حقيقة النفس و مختلف نزعاتها. و رابعها التكرار. و عن تأثـير العمـى على مستوى موسيقـى شعر أبي الحسن فيتجلّى في نظمه على كل أوزان الشعر العربي، و تطويعها جميعا للغرض الأهم عنده و هو الرثاء، حتى و إن كان تناول البحور بنسب متفاوتة، فكان أكثرها استعمالا البسيط و الطويل، و كلاهما بحر يتَّسِعُ للسرد القصصي و العرض الدرامي و الشكوى. و الحديث عن الوزن يقودنا إلى القافية، التي ألزم فيها الشاعر شعره ما لا يلزم؛ فرتب قوافي قصائد ديوانيه (المُعشَّرات) و (اقتراح القريـح و اجتراح الجريح) حسب الحروف الهاء ابتداءا بالألف و انتهاء باللام و الألف، و أكثر من ذلك ألزم نفسه بحروف ما قبل الروي، و في ذلك صورة من صور تحدّي المبصرين، و إشغال نفسه في أوقات فراغه التي كانت تبدو له. كما لم يكتف الحصري بلزومه ما لا يلزم، بل عمد إلى تجنيس قوافي مقطوعاته خاصة، و تصريع أوائل أغلب قصائده، لتحقيق إيقاع أجمل، و للتحكُّم في حجم البيت الشعري، إذ يغدو التجنيس أشبه ما يكون بمعالم تمكن شاعرنا الضرير من عدم تجاوز ما يسعه البيت من تفعيلات البحر الذي يُنظم عليه. و هذه ظاهرة تدلُّ على قدرته في الصناعة اللفظية، و من غير المستبعد أن يكون لمدرسة مسلم بن الوليد، و ابن المعتز تأثيرها في هذا الجانب. و في مجال البحث في أنمـاط صوره، فقد توصلت إلى تحـديد ثلاثة هي: الصور الحسية، و العقلية، و الوجدانية. ولكثرتها اكتفيت بنماذج محدودة، و صنفت الصور الحسية ضمن سبعة مجموعات من الصور، هي: الصور البصرية، و السمعية، و الذوقية، و الشمّيّة، و اللمسية، و الضوئية، و اللونية. و من خلال نسبة حضور هذه الأنماط الحسية في شعر أبي الحسن، نجد أن الصور البصرية هي الأكثر حضوراً، رغم افتقاد شاعرنا لحاستها، لكن حينما نتأملها نجده استند فيها إلى محفوظه من الشعر العربي القديم و المعاصر له. أما سائر الأنمـاط الأخرى، فمصدرها سـائر الحواس الأخرى التي استعـاض بها الحصري عن البصر. و أما الصور الضوئية و اللونية، فمصدرها مصدر الصور البصرية نفسه. و ثاني نمط من الصور هي الصور العقلية، و تنقسم بدورها إلى قسمين: الصور الدينية، و مصدرها ثقافة الشاعر الدينية، و فيها يقرن الشاعر بين حاله في فقد ابنه عبد الغني و حال بعض الأنبيـاء كآدم، و نوح، و يعقوب، و يوسف، و أيوب - عليهم السلام-. و الصور التراثية التي مصدرها أحداث التاريخ العربي الإسلامي و شخصياته، من علماء، و قراء، و شعراء، و نحويين، و بلاغيين، و غيرهم، قاصدا بذلك الإعلاء من شأن نفسه و ابنه. و ثالث نمط، هي الصور الوجدانية، التي مصدرها أحاسيس الشاعر و معاناته وآلامه النفسية الناتجة عن عاهتة و ما سببته له من انطوائية، و مواقف سلبية مستقاة من محيطه الاجتماعي. و باستعراض أنماط الصور الآنف ذكرها، لاحظت أن أكثر أركان الصور المادية تتوزع عبر ثلاث مجموعات هي: مجموعة صور الهلال، و القمر، و الشمس، و النور، و البرق، و السنا. و مصدرها النور الذي يمثل العنصر المفقود المنشود عند الشاعر. و مجموعة الطيف و الخواطر، التي تمثل عُمدة الشاعر في التفكير و استحضار الصور حتى و لو كانت مبهمة، و مجموعة العين و الحسد، حيث تجمع الأولى بين وظيفتين متناقضتين همـا البصر و الحسد، و حينها تبدو العين لدى شاعرنا محبوبة و مكروهة، و بافتقادها افتقد مصدر لذة الحياة. و ثالث مجوعة هي مجموعة السيف و الحيا، فالسيف آلة حادة قاطعة فاصلة بين الحق و الباطل، كما هو رمز للشجاعة و البطولة و البيان في القول، و قد استعاره الشاعر لابنه المفقود للتعبير عن عدم استئهاله الموت. أما الحيا فهو رمز للحياة و التجدد، و قد أورده شاعرنا في الدعاء لبلده القيروان، على طريقة الشعراء العرب الأوائل في حنينهم إلى الدِّيار. و آخر مستويات تأثير عمى الحصري في شعره هو بروز ظاهرة التناص التي تعددت مراجعها؛ منها الديني (القرآن)، و الأدبي(الشعر)، و التاريخي الذي مصدره الحوادث التاريخية العربية و الإسلامية الكبرى كأيام العرب و الغزوات الإسلامية ، و كل ذلك يكشف على أن الحصري يستند في إبداعه على محفوظه من هذه المراجع المذكورة. و خلاصة القول أن أبا الحسن الحصري، بشاعريته الفذة، و تجربته في الحياة، و كثرة ما جابهه من صروف الدّهر، بِمَا في ذلك فرار الزوجة، و فقد الأبناء، و الرحيل عن الوطن، استطـاع أن يُعوِّض عما وجده في نفسه من نقص بسبب عمـاه، فخلقَ الملاءمة بين العامـل الداخلي و الخارجي، و نقل عاهته من عامل مُثبِّط إلى عالم مشجع على الإبداع و التَّفرُّد و التميُّز؛ كنظمه على كل بحور الشعر العربي، و استعمال كل الحروف رويّا، و وفرة المعاني، و دقَّة التصوير، و روعة التشبيه. و بذلك خلقَ مُعَادِلاً فنيا عوَّضهُ عمَّا فقده، و منحهُ قوة جابَهَ بها مِحَنَ الحياة، خلافا لِما يُشاعُ عن سلبية الإعاقة و أثرها في الحياة و في الإبداع، و لنا مثالٌ معاصر في حاله هو عالم الرياضيات البريطاني ستيفن هاوكينغ (Stephen Hawking) (1942م _ ....)، مما يحملنا على القول أن خلقة الإنسان و تقلباته تصنع التَّفرّد. فكان شعر الحصري صورة لحياته بكل مراحلها، و مرآة عاكسة لواقعه، من حيث أنماط التعبير و مضامينها، و حسن التمثيل الفني. و مهما تكن النتائج التي توصَّلتُ إليها، فإنني أعتبرها نافذة تُفتح على شعر واحد من كبار شعراء المغرب العربي القديـم، و هو جديـر بدراسات أكثر عمقا لما اشتمل عليه من ظواهر نفسية و فنية انفرد بها عن سـابقيه و معاصريه.
Description
Keywords
علم النفس, الشعر العربي, الأدب العربي, تجليات العمى
Citation