المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية وتطبيقاتها في التشريع الجنائي الجزائري
No Thumbnail Available
Date
2007
Authors
Journal Title
Journal ISSN
Volume Title
Publisher
جامعة أم البواقي
Abstract
لقد ارتبطت المسؤولية الجنائية منذ فجر التاريخ بوجود الإنسان على وجه الخليقة وتطورت أوصافها وأشكالها بتطور حياة البشر وعلاقاتهم ، حتى أنه يمكن القول أن تطور المجتمع وما يصاحبه من تطور اجتماعي و اقتصادي و فكري ينعكس أثره على تطور المسؤولية ، كل ذلك بالموازاة مع ظهور الجريمة باعتبارها إحدى صور إفرازات المجتمع و ما يعتريه من تجاذب بين مصالح الأفراد .
وعلى النحو السابق ، فقد كانت المسؤولية الجنائية في أول عصر ظهورها مسؤولية مادية بحتة لا مكان لمفهوم الخطأ فيها ، فكان الإنسان يسأل عن أفعاله باعتباره مصدرا للضرر بغض النظر عما إذا كان فعله مقصودا أم غير مقصود، وسواء كان مدركا لفعله أو غير مدرك له، و سواء كان حرا في ارتكابه أو مكرها، فلم يكن يولى اهتمام لصفات الفاعل الشخصية فلا مجال للتمييز بين عاقل و مجنون و بين صغير أو كبير، حيوان أو إنسان، بل طالت حتى النبات و الأشياء الجامدة، فالفعل و الضرر و إسناده إلى مصدره كان أساس المسؤولية التي هي لذلك مسؤولية موضوعية بكل المقاييس .
ثم وفي مرحلة أخرى و نتيجة التأثر بعديد العوامل ـ انحسر مفهوم المسؤولية الموضوعية و بدأت فكرة الخطأ تتبلور شيئا فشيئا، ساهم في هذا ظهور الدولة التي حملت على عاتقها إقامة العدالة و تحمل عن المجني عليه عبء رد الاعتداء، كما تنفرد لوحدها بالاقتصاص من الجاني، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه ظهور الدين و تأثيره على هذه المفاهيم الاجتماعية فضلا عن الدور الذي لعبته المدارس الوضعية و ما طرحته من أفكار ، إثر ذلك ظهرت مفاهيـم جديدة للمسؤولية، فانزاحت المسؤولية الجماعية الظالمة لتحل محلها المسؤولية الفردية العادلة، ليترسخ بعد ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر (19) مبدأ شخصية العقاب كأهم مبادئ المسؤولية الجنائية في الوقت الحاضر و كذلك بفردية العقوبة و أن المسؤولية أصبحت مبنية أساسا على الأهلية والخطأ ، وحتى هذا الوقت كان ـالشخص الطبيعي وحده مناط هذه المسؤولية .
و في هذه الأثناء كانت الثورة الصناعية و ما حصل من تطور في علاقات العمل و علاقات أرباب العمل بالعمال و في تسيير الآلة و في الإنتاج، و مع ظهور شركات التأمين و ازدياد الحرص و الاهتمام المتزايد بتعويض الشخص المتضرر عن كل ضرر أصابه سببه له الإنسان أو الحيوان أو الشيء، تبلور مفهوم المسؤولية المدنية لتصبح قائمة على ضمان المخاطر، إثر ذلك أصبح الخطأ يفترض افتراضا كلما تعذرت البينة عليه، و أصبح يستنتج من طبيعة الفعل و نتائجه، و نتيجة كل ذلك ظهرت المسؤولية المدنية دون خطأ أو المادية، كما ظهرت المسؤولية المدنية عن فعل الغير و الناتجة إما عن تقصير أو إهمال في الرقابة أو الإدارة أو التسيير.
وفي تطور لاحق، وبغية حماية الأفراد عما لحقهم من أضرار و حمل الآخرين على الدقة و الاحتراز في رقابة ما كان تحت سلطتهم و تبعيتهم وإدارتهم، وحملهم على احترام ما على عاتقهم من موجبات، ظهرت ضرورة قرنها بعقوبات جزائية كوسيلة للوقاية من مخالفاتها وكردع للمخالفين خصوصا مع صعوبة اثباث النية الإجرامية فيها.
ولقد تأثر الفقه والاجتهاد القضائيين في المجال الجنائي بالمفاهيم الحديثة للمسؤولية المدنية، وكان لابد لها من أساس وجدته في مفهومي المسؤولية الجنائية دون خطا و المسؤولية الجنائية عن فعل الغير.
ثم وباتساع مفهوم المسؤولية الجنائية، وخروج النشاطات عن نطاق الفرد الواحد إلى يد مجموعة من المصالح المجسدة في تكتلات بشرية ومالية على ما يعرف في القانون المدني بالأشخاص والهيئات المعنوية وقيامها بنشاطات خلفت أضرارا تفوق أحيانا ما قد يسببه الفرد وحيدا، ظهرت ضرورة مساء لتها جنائيا فظهر ما عرف بإقرار المسؤولية الجنائية للهيئات المعنوية .
والأشخاص المعنوية، على النحو المطروق آنفا ، تشكل فعلا حقيقة واقعية تشغل حيزا كبيرا في الفكر القانوني في نواحيه الفقهية و الفلسفية وفي نواحيه التشريعية، فنجدها تتمتع كالأشخاص الطبيعيين بأحكام تحدد وجودها و انتهاءها و أخرى تتعلق بأهليتها و الآثار المترتبة على ذلك، وأن لها مقومات للوجود تمكنها من ممارسة النشاطات و المشاركة في الحياة الاجتماعية و التأثير فيها سلبا و إيجابا، حيث لها اسم و موطن و ذمة مالية و جنسية تميزها.
كما نجدها تشغل حيزا معتبرا في المنظومة القانونية، حيث رصدت لها نصوص تضبط وجودها و تحدد لها مسارها و تلزمها بالخضوع لها، وتحملها تبعات مخالفتها، فاستقر بذلك في القانون إمكان مساءلتها مدنيا و إداريا وأن لها المقومات المتطلبة لذلك.كما رصدت لها مجموعة من النصوص بهدف حمايتها و الحيلولة دون التعدي عليها، فيجوز لها أن تدعي مدنيا عند حصول اعتداء على حقوقها المكفولة، بل و أكثر من ذلك يجوز لها الادعاء جنائيا في الحالات التي تكون فيها ضحية مجني عليها، فلها بذلك فضلا عن سلوك الطريق المدني أن تلجا إلى الطرق الجنائية لحماية حقوقها المعتدى عليها و هو متعارف عليه و مستقر في الفقه و التشريع وما هذا إلا تجسيد للميزة التي يتمتع بها الشخص المعنوي و أشرنا لها سابقا و هي تمتعه بحق التقاضي.
هذه المكانة الكبيرة التي تتمتع بها هذه الكيانات و الخطورة التي تشكلها ، هي التي دفعت العديد من الفقهاء إلى القول أنه من غير السوي إقرار صلاحية الأشخاص المعنوية لأن تكون طرفا إيجابيا و سلبيا في علاقات القانون المدني في حين لا تصلح إلا أن تكون طرفا سلبيا في علاقات القانون الجنائي على الرغم من أن الشخص في الحالتين واحد، كما أن الأساس المعتمد في إقرار المسؤوليتين واحد، و أن ماهية و طبيعة الشخص المعنوي على النحو الذي رأيناه لا تأبى متابعته بوصفه جانيا ، لذلك ظهر التفكير في مدى إمكان مد رواق المسؤولية الجنائية لتطال الأشخاص المعنوية إلى جانب الأشخاص الطبيعيين .
وعلى خلاف مسؤولية الشخص المعنوي المدنية التي كانت موضع اتفاق ، فإن مسؤوليته الجنائية كانت مثار جدل فقهي و تشريعي كبير ، وظهر في هذا الصدد اتجاهان ، أحدهما معارض و آخر مؤيد .
فالاتجاه المعارض يرى أن هذا النوع من المسؤولية يتنافى و المبادئ المستقرة في التشريعات العقابية ، فمن جهة فإن طبيعة الشخص المعنوي تتنافى وقواعد المسؤولية الجنائية انطلاقا من ضابط الأهلية و الإسناد و التي تستلزم لإقرار المسؤولية وجوب توافر عناصر الإرادة في الوعي و الإدراك ، والتي يفتقر إليها الشخص المعنوي ، ومن جهة أخرى فما الطائل من إقرار هذا النوع من المسؤولية طالما لا تحقق الأغراض المبتغاة منها ، و على العموم فإن الحجج التي اعتمدها أنصار هذا الاتجاه تتمثل في :
ـ أن الشخصية المعنوية هي محض افتراض أو مجاز قانوني ويترتب على ذلك عدم إمكانية مساءلته جنائياً لأنه ليس بإنسان له إرادة مستقلة واختيار.
ـ تعلق جود وأهلية الشخص المعنوي بالغاية التي نشأ من أجلها فإذا ارتكب جريمة يكون قد جافى الغاية التي انشأ من أجلها وبالتالي تسقط عن الشخصية المعنوية.
ـ أن مساءلة الشخص المعنوي يتعارض مع مبدأ شخصية العقوبة حيث إن توقع العقوبة عليه ستتبع بالضرورة امتداد أثارها للأشخاص الطبيعيين المكونين له
ـ بحكم طبيعة وأهداف عقوبات الإعدام والحبس لا يتصور أن تطال شخصاً معنوياً لتعارض مع طبيعة واستحالة توقيعها عليه ذلك انعدام الردع والإصلاح.
أما الاتجاه المؤيد فيرد على الحجج المقدمة من قبل أنصار الاتجاه الأول تبعا ، ويردها الواحدة تلوى الأخرى ، ويرى أنه و كما أمكن مساءلة الأشخاص المعنوية مدنيا فمن الممكن مساءلتها جنائيا ، فما المانع طالما أن موضوع و مناط المسؤولية في الحالتين واحد ، كما يضيف أنصار هذا الاتجاه مجموعة من العوامل و الدوافع النظرية و العملية التي تؤيد بل و تستدعي ضرورة إقرار هذا النوع من المسؤولية .
و الحق أن هذا الاتجاه الأخير هو الأرجح فيما ذهب إليه و نجح في تأصيل هذه المسؤولية و تأسيسها وكانت حججه منطقية و مقبولة إلى حد كبير، ولا أدل على ذلك إلا الحركة المتزايدة للتشريعات العالمية في مختلف الأنظمة الأنجلوسكسونية(على رأسها التشريع البريطاني) وكذا الفرانكفونية ( و على رأسها التشريع الفرنسي ) و كذا الأنظمة العربية التي تسير في فلكهــا
(ومنها التشريع الجزائري الذي تشيع إلى ما ذهب إليه المشرع الفرنسي) و جنوحها جميعا نحو إقرار هذه المسؤولية و الأخذ بها في نطاق أنظمتها الجنائية كقاعدة عامة بعد أن كانت ترفضها في مجملها أو على الأقل تقررها استثناءا في مجال ضيق كالجرائم الاقتصادية و الإدارية ، هذا الجنوح قابله في الجهة الأخرى تقلص و تراجع في عدد التشريعات التي تنكر هذا الاتجاه أو التي تقرره في نطاق ضيق .
وعليه فإن مبدأ المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية لقي قبولا صريحا في ميدان القانون العام وأنها لم تعد تتعارض مع الأسس التي ترتكز عليها المسؤولية الجنائية، وإن مجال إقرارها لم يبق محصورا كما كان سائدا في السابق في أغلب التشريعات التي كانت تقررها في مجال الجرائم الاقتصادية أو بالأحرى في ميدان قانون العقوبات الاقتصادي الخاص بالشركات والمؤسسات، بل أصبح يطال غالب أنواع الجرائم ومعظم أنواع الأشخاص المعنوية، كما أن قاعدة مساءلة الأشخاص المعنوية كما هي معروفة في القوانين الداخلية فهي معروفة كذلك في مجال القانون الجنائي الدولي بصدد مساءلة المجموعات و المنظمات و الهيئات الدولية فيما ترتكبه من أفعال تعتبر جرائم في نظر القانون الجنائي الدولي .
ولقد كانت ثمرة هذا الاتجاه الفقهي و التشريعي المقرر لمسؤولية الأشخاص المعنوية جنائيا ، بأن أصبحت هذه النظرية أكثر تجسيدا و أكثر تكاملا في جوانبها المختلفة ، شأنها شأن المسؤولية الجنائية للأشخاص الطبيعيين .
فمن الناحية الموضوعية أصبحت الأشخاص المعنوية تسأل عن عدد لا بأس به من الجرائم ، بل لنقل عن كل الجرائم التي تتفق وطبيعتها إعمالا لمبادئ شرعية الجرائم و العقوبات، و أصبحت تساءل عنها بصفتها فاعلا أو شريكا ، كما تنطبق عليها كذلك أحكام الشروع و المحاولة و مختلف القواعد المتعارف عليها في القسمين العام و الخاص من فانون العقوبات ، كتطبيق قانون العقوبات من حيث الزمان و المكان وكذا أركان الجرائم وشروطها المختلفة .
ومن مجموع النصوص القانونية ، في التشريعات المختلفة التي تبنت هذه النظرية يمكننا القول أن شروط قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية تنحصر في أربع شروط هي :
- أن تكون الأشخاص المعنوية ممن يمكن مساءلتها جنائيا.
- أن تكون الجريمة ممن يمكن مساءلة الأشخاص المعنوية عنها.
- وجوب وقوع الجريمة من شخص له حق التعبير عن إرادة الشخص المعنوي.
- ضرورة ارتكاب الجريمة باسم ولحساب الشخص المعنوي.
أما من الناحية الإجرائية ، و إعمالا لمبادئ الشرعية الإجرائية ، فقد رصدت لها مجموعة من الإجراءات التي تتفق و طبيعة هذا المجرم الجديد ، فتنطبق عليها كقاعدة عامة كافة القواعد الإجرائية المتعلقة بالمتابعة و التحقيق والمحاكمة المعروفة في مجال متابعة الأشخاص الطبيعيين ،فتطبق على الأشخاص المعنوية الإجراءات المتعلقة بتحريك ومباشرة الدعوى العمومية في مواجهتها،والدعوى المدنية المرتبطة بها، والقيود المطبقة عليها والجهات المختصة بها، وكذا أجال تحريك الدعوى وانقضائها، وسلطات وصلاحيات أجهزة النيابة العامة فيها.
كما تطبق عليها القواعد المتعلقة بالتحقيق الابتدائي، من حيث طرق افتتاحه، واتصال قاضي التحقيق به، والسلطات المخولة له والقيود التي ترد عليها، والأوامر التي يصدرها، وحالات بطلانها وطرق الطعن فيها والجهات المختصة بالطعن والآجال الممنوحة لذلك والآثار المترتبة عليها، وأجه التصرف في الملف والمرتبطة بطبيعة الجريمة من حيث كونها جناية أو جنحة أومخالفة،كما تخضع للقواعد الخاصة بإجراءات المحاكمة، من حيث الجهات المختصة بها ودرجاتها وتشكيلاتها والأحكام التي تصدرها وشروط صحتها وبطلانها، والطرق العادية وغير العادية المتاحة للطعن فيها وطرق النطق بها والإجراءات المتعلقة بتنفيذها، كل ذلك في النطاق الذي يكون مقبولا منطقا وقانونا، ويتماشى وطبيعة الشخص المعنوي.
و لمواجهة الحالات التي تصطدم فيها هذه الإجراءات مع طبيعة الشخص المعنوي فقد وضعت لها التشريعات حلولا مختلفة ، نذكر منها مثلا ، ما يتعلق بتمثيل الأشخاص المعنوية أثناء التحقيق و المحاكمة في الحالات التي يتابع فيها هذا الممثل إلى جانب الشخص المعنوي أو الحالات التي لايوجد فيها هذا الممثل كما في حالة وفاته أو فراره .
و من الناحية العقابية ، وإعمالا لأحكام الشرعية الجزائية فالشخص المعنوي متى تقررت في حقه المسؤولية الجنائية ، يخضع لمجموعة من العقوبات المختلفة و المتنوعة بعضها يمس بوجوده و البعض بذمته المالية و بعضها الآخر تمس باعتباره ، وكذا مجموعة من التدابير العينية ، كل ذلك للحد من خطورته الإجرامية ، كما أن هذه العقوبات من شأنها أن تحقق في مواجهته الأغراض المبتغاة منها وفق معطيات علم العقاب من تحقيق الردع و الإصلاح و تحقيق العدالة كأغراض بعيدة و كذا الحد من الجرائم التي يرتكبها كغرض قريب ، كما تنطبق عليه الأحكام التي تلحق العقوبة فتمس بها وجودا و مقدارا .
و هكذا أصبحت أحكام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية أكثر اكتمالا ووضوحا و أن الاجتهاد و الاختلاف لم يبق دائرا حول إمكان إقرار هذه المسؤولية و إنما مجال الاختلاف متاح فيما يتعلق بشروط هذه المسؤولية و نطاقها .
Description
Keywords
القانون الجنائي, المسؤولية الجنائية